-->

لا أفلح في تعليمهم

        قلت لصديق لي أديب : إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات ، فما رأيتك أسففت إسفافك في هذه الأيام ، فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك و محا آيتك ؟ أخبرني ما بك. قال :  
       وماذا بي إلا أنني معلم منذ اربعة أعوام بمدرسة ابتدائية، نهاري نهار المجانين و ليلي ليل القتلى ، فمتى أفكر و متى أكتب ؟ وأنا أروح العشية إلى بيتي مهدود الجسم ، مصدوع الرأس ، جاف الحلق ، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ خمسا وسبعين حماقة ، وأمامي سبعون دفترا علي أن أصححها ، فأعمي عيني بقراءتها و الإشارة إلى خطئها ، و بيان صوابها و تقدير درجاتها ، فإذا انتهيت من هذا كله ، نمت نوماً مضطرباً ملؤه الأحلام المزعجة و الصور المرعبة.
النص القرائي لا أفلح في تعليمهم       و لا أزال في هذه الأحلام ، تنوء بي فأتقلب من جنب إلى جنب ، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أحُد ، حتى يصبح الصباح ، فأفيق مذعوراً أخشى أن يسبقني الوقت ، فلا أدري كم ركعت و كم سجدت ، و لا كيف أكلت و لبست ، و أهرول إلى المدرسة.
       أدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية ، و هؤلاء هم تلاميذي ، كان عددهم في بداية السنة الدراسية لا يتجاوز تسعة عشر تلميذا ، فلم يلبث أن انضافت إليه سبع عشرة تلميذة ، ثم أربعة وثلاثون تلميذا ، فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم ، و أمزق نفسي لأرقع نفوسهم ، ثم لا أفلح في تعليمهم ، فأنفق ساعة كاملة أقلب أوجه القول و أستقري عبارات اللغة ، لأفهمهم كيف يكون : " الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم و ليس الزمن جزءاً منه " فلا يفهمون من ذلك شيئاً ،  فأهذي ساعة ثم أقول : من فهم ؟ فيرفع ولد أصبعه ، فأحمد الله على أن واحداً قد فهم ، ومن يدري قد يصبح بعد حين اثني عشر على الأقل ، فأقول : قم يا بني ، أخبرني عن معنى هذا التعريف .
- يا أستاذ ! هذا داس قدمي !
فأصيح به : ويحك أيها الخبيث ! إني أسألك عن تعريف الاسم ، فلماذا تضع فيه قدمك ؟
- و لماذا يدوس هو على رجلي ؟!
فأصيح في الآخر : لم دست على رجله يا شيطان ؟
- و الله لقد كذب ما دست على رجله ، و لكن هو الذي عضني في أذني .
فأصرخ في وجهه : وكيف يعضك و أنا قاعد هنا ؟
- ليس الآن ، و لكنه عضني أمس .

علي الطنطاوي . النصوص العامة . نقلا عن فهمي الشنطي . دار الثقافة . ص77

أولا: التعريف بالكاتب: [علي الطنطاوي]

مراحل من حياته:

- ولد الشيخ علي الطنطاوي في دمشق بسوريا سنة 1900
- حصل على الباكالوريا سنة 1928
- درس في مصر
- عاد إلى دمشق والتحق بكلية الحقوق حتى نال الليسانس سنة 1933
- زاول مهنة التعليم في بلده ، ثم انتقل إلى العراق وعمل مدرسا في العديد من مؤسساتها
- عمل في سلك القضاء ربع قرن كاملا ، وتدرج لأعلى المناصب في المحاكم السورية.
- التحق بالمملكة العربية السعودية سنة 1963 وعمل مدرسا في الكليات والمعاهد
- توفي سنة 1999 ودفن في مكة المكرمة

أعماله:

* ترك علي الطنطاوي عدداً كبيراً من الكتب، أكثرها يضم مقالات مما سبق نشره في الصحف والمجلات ، ومنها:
 
- أبو بكر الصديق (1935) -أخبار عمر (1959) - رجال من التاريخ (1958) - صور وخواطر (1958) - قصص من الحياة (1959) - مقالات في كلمات (1959) - مع الناس (1960) - تعريف عام بدين الإسلام (1970) - فتاوى علي الطنطاوي (1985).

ثانيا: ملاحظة النص واستكشافه:

1- العنوان:
 يتكون من خمس كلمات تكون فيما بينها مركبا إسناديا (جملة فعلية منفية) وضمنه مركب إضافي يتمثل في العلاقة الرابطة بين الكلمتين الأخيرتين (تعليمهم)
2- الصور المرفقة:
تركز الطائفة الأولى من الصور على أتعاب المدرس ومعاناته في مهنته، بينما تركز الطائفة الثانية من الصور على شغب التلاميذ وعدم اهتمامهم.
3- بداية النص ونهايته:
تتضمن مؤشرات دالة على نوعية النص وتفيدنا في الاقتراب التدريجي من معاني النص ، ومن أمثلتها:
- ضمير المتكلم – الحوار بين الشخصيات – هيمنة الأفعال على الأسماء – مؤشرات زمنية…
وكلها مؤشرات دالة على أن النص يحمل خطابا سرديا / حكائيا.
3- نوعية النص :
      مقطع من سيرة ذاتية ذات بعد اجتماعي.

 ثالثا: فهم النص:

1- الإيضاح اللغوي :
- أسففت إسفافا : نزل مستواك وتدنى
- محا آيتك : أزال حجتك وقدرتك على الإبداع
- مهدود الجسم : اسم مفعول من هده بمعنى : هدمه ، والمقصود : متعب الجسم
- أوجه القول : طرق الكلام وأشكاله
- تنوء بي : تثقل علي
- أهذي : أتكلم كلاما غير معقول لمرض أو نحوه
2- الفكرة المحورية :
       فشل المدرس في تعليم تلاميذه ، ومعاناته في مهنته بسبب كثرة التلاميذ ، وضعف مستواهم ، وشغبهم.
3- أحداث النص
* يتضمن النص حدثين رئيسيين :
أ- تساؤل الكاتب عن السبب في تدني وتراجع مستوى صديقه في الإبداع الأدبي.
ب- جواب الصديق بأن السبب في ذلك يرجع إلى مهنة التعليم ومتاعبها الكثيرة

 رابعا : تحليل النص:

1- العلاقات بين أحداث النص :
 السبب العام
 السبب الخاص
 النتيجة الخاصة
 النتيجة العامة
 امتهان صديق الكاتب لمهنة التعليم - الاكتظاظ 
- ضعف مستوى التلاميذ
- الشغب
 الفشل في تعليم التلاميذ  تراجع مستوى صديق الكاتب في الإبداع الأدبي

2- الحقول الدلالية  :
 الألفاظ والعبارات الدالة على المجال التربوي
 الألفاظ والعبارات الدالة على المعاناة
 مدرسة ابتدائية – معلم – تلاميذ – السنة الدراسية – السنة الثالثة الأولية – دفترا – أصححها – الإشارة إلى خطئها – تقدير درجتها – تعريف الاسم – أستقرئ عبارات اللغة…  مصدوع الرأس – مهدود الجسم – جاف الحلق – أتقلب من جنب إلى جنب – أفيق مذعورا – نمت نوما مضطربا – نهاري نهر المجانين – ليلي ليل القتلى…

* الدلالة : نلاحظ نوعا من التساوي بين ألفاظ وعبارات الحقلين معا ، وفي هذا دلالة تتجلى في العلاقة بين مهام التعليم وأعبائه والمعاناة التي تصيب المعلمين من جراء ذلك ، فبقدرما تزداد هذه الأعباء بقدرما تزداد معاناة المعلم.

خامسا: التركيب والتقويم:

 يقدم السارد صورة صديقه الأديب الذي تراجع مستواه في الإبداع بعد امتهانه مهنة التعليم ، ويصور على لسانه معاناته ، والصعوبات والعراقيل التي كانت تواجهه أثناء مزاولة مهنته التي أخذت كل وقته ولم تترك له فرصة للاتفات إلى نفسه. كما ينقل إلينا بعضا من الأسباب التي أدت إلى فشل المدرس في تعليم تلاميذه، ومنها على الخصوص: الاكتظاظ  وضعف مستوى التلاميذ والشغب.
      * يتضمن النص قيمة اجتماعية تتجلى في تصوير معاناة فئة من فئات المجتمع وهي فئة المعلمين ، وما تكابده هذه الفئة في سبيل محاربة الجهل و تنشئة الأفراد اجتماعيا.
     * على مستوى الأسلوب اعتمد السارد أسلوبا ساخرا في وصف شخصية المعلم ، وفي حواره مع التلاميذ..وليس الهدف من هذه السخرية الانتقاص من المعلم أو النيل من كرامته بل الهدف هو انتقاد واقع مهنة التعليم والأوضاع المزرية التي يعيشها.