-->

الجراد

ذات مساء ، كان كل شيء فى القرية يسير فى نفس الخط الذى يسير عليه كل يوم . تماماً كما كانبالأمس وأول أمس ، ومنذ عام مضى .
عمران يزاول مهمة رفع الماء من البئر بالدلو والبقرة ، يقدم لمزروعاته وجباتها اليومية ، كان يمشى ويرجع خلف البقرة عبر المج ر المحفور فى الأرض . وكان الحبل الذى يجر على(البكرة) تتصاعد منه نغمة حلوة رتيبة ، وعمران يغنى ، ويستحث البقرة ، ويهش عليها بالعصى ولا يضربها ويواصل رحلته التى لا تنتهى عبر مسافة لا تزيد بأى حال عن خمسة أمتار!!
والمبروك الفأس بين يديه . والعرق ينز من جب هته العريضة . وأنفاسه تتردد مجهدة مبهورة . وهو يعزق الأرض فى بستانه الصغير . والحاج سالم يحرس حقله الذى يموج بسنابل القمح والشعير ، يطرد حماراً من هنا . ويصيح فى قطيع أغنام من جهة أخرى ، ويرمى بالحجارة سرباً من العصافير نزل فى جهة ما من الحقل
وكل أهل القرية يزاولون أعمالهم اليومية . يتفرقون هنا وهناك . هذا يسوق قطيعا من الأغنام وقد ضاع صوته فى صياحها المتواصل – ما … ماع … ما . . وآخر يشمر عن ساعديه ، ويفتح قدميه ، واقفاً على حافة أحد الآبار يرفع الماء ويدلقه فى أحواض من الحجر لجماله الكثيرة التى راحت تتدافع وتشرب الماء بنخير عال . فى حين يهمهم هو بصوت مجهد : - يا ععم. . يا ههم … يا ههم .
كل شيء فى القرية كان هادئاً ، طبيعياً ذلك المساء .
وفجأة أتى أحد الرجال مهرولاً ، وأخذ يزرع صيحاته فى القرية ، كأنه الندير ، كان صوته مشحوناً بالحرقة واللوعة والخوف وهو ينبئ الناس فى القرية بأن "الجراد" على أبواب قريتهم الصغيرة . إن أرجاله التى لا حصر لها تنام هذه الليلة بالبطاح القريبة التى لا تبعد عن القرية سوى خمس كيلو مترات .
وكأنما استحال الناس فى القرية إلى مجموعة من المجانين يجرون هنا وهناك فى ذعر وخوف . والبعض من أهل القرية ذهبوا إلى شجيراتهم ومزروعاتهم يكحلون أعينهم بها ، ينظرون إليها فى حنين ولهفة ، فمؤكد أنها مع شروق شمس الغد ستستحيل على يد الجراد إلى مجرد ذكريات ليس إلا .
والحاج سالم ذهب ليقف على رأس حقل ه ينظر إليه فى حسرة ولوعة ، لم يغالب حتى الدمعة التى ترقرقت فى عينيه ، ولأول مرة يرى الطيور تنزل فى الحقل فلا يرميها بالحجارة ، ويرى الشياه تتقدم نحو الحقل فلا يصيح فيها بصوته المشروخ ، كان واضحاً أن خبر الجراد يشل كل شئ فى الحاج سالم .
الحاج سالم وعائلة المبروك وأبناء عمران ، وكل إنسان فى القرية ، جميعاً لقمتهم فى أشجارهم وزراعتهم . التى سيجعل منها الجراد …أثراً بعد عين .الجراد الذى سيحيل كل شبر أخضر فى أرضهم إلى جذب وخراب والجراد ... الجراد … الجراد … الجراد ... الجراد . وأمام المسجد ، كان أهل القرية يقفون فى حزمة واحدة كانوا أحياناً يتكلمون فى صوت واحد . كانت أصواتهم غاضبة . ووجودهم يغشاها حزن عميق . وأيديهم التى نفرت عروقها الزرقاء يلوحون بها فى عصبية ظاهرة .
وتمتم رجل عجوز والشعور بالخطر يهز كل شئ فيه اللهم لطفك يارب . اللهم عفوك يارب
- وارتفع صوت يتساءل فى غضب : والآن ماذا فكرتم لنا يا رجال؟؟ وتبعه آخر : - نعم يا رجال ، ما العمل يا رجال؟
وانبثقت أصوات كثيرة ، إلا أن جميعها تتساءل ، كان الجو مشحونا بإشارات الاستفهام التى تعقف رؤوسها فى حيرة ، ما العمل ؟ ما العمل؟ ما العمل؟
وكان المبروك يغرس رأسه إلى أسفل ولم يقل شيئاً ، جسمه فقط كان يتململ فى غير ارتياح وكأنه يجلس على قرية نمل . والمبروك فى الخامسة والعشرين من عمره ، جبهته عريضة ، ووجهة يضرب إلى السمرة ، وعيناه كالشعلتين تعلوها حواجب خفيفة الشعر ، والده مات وترك له أسرة كبيرة وبستانا صغيراً يستنزف جهد المبروك اليومى وهو بالكاد يتمكن عن طريق البستان من انتزاع لقمة العيش للأسرة الكبيرة. وكان الفكرة التى تتردد بين جدران دهنه ، تبدو له أحيانا مضحكة . وكان خائفاً من أنه لو قالها لضج الجميع بالضحك ، وربما خامرهم الشك فى سلامة عقله . ..وكان ما يزال يفكر وهو ساهم ساكت . .
ولكزه أحد الجماعة لينبهه إلى أنهم يسألونه رأيه فى الاقتراح الذى قاله الحاج سالم ، والذى يريدهم أن يستعدوا لمطاردة الجراد القادم غداً للقرية ، بإحداث صخب وضجة بطرق الحديد ، وضرب الدفوف ، ودق النواقيس ، ورن الزجاجات الفارغة ، وعن طريق هذه الضجة الصاخبة سوف تغادر أرجال الجراد القرية بمجرد الوصول إليها وتسلم بذلك القرية .
وعندما قال له مزارع طويل … شنبه كذلك طويل . . :
تكلم يا مبروك ما بك . أنت ساكت هكذا لماذا؟ ألم تعج بك فكرة الحاج ، أتراها لا تنفع ؟
وجد المبروك نفسه ، فجأة يقول : - نعم . . أرها لا تنفع .
واستغربت الجماعة .
إلا أن المبروك استمر واصلا كلامه ، وكأن أحدا لم يقاطعه . فما رأيكم الآن ، أيها الأخوان ، فى فكرة أخرى ؟ فكرتى هذه … أن نأكل نحن الجراد بدلا من أن يأكلنا هو . ومن خلال الظلام تبادل الجماعة نظرات حائرة . ماذا يقول المبروك؟
وأفصح أحدهم عما يدور فى ذهنه : … لم نفهم…؟… كيف نأكله؟!
وعندما مضى المبروك يوضح فكرته لم يستطع الجماعة أن يغالبوا رغبتهم فى مصمصة شفاههم وتبادل النظرات الحائرة التى غالبا ما كانت ترافقها شفاه مقلوبة وكان مجمل فكرة المبروك التى مضى يوضحها فى خطاب طويل . . أنهم فى هذه الليلة وفى الساعات الأولى من السحر… تماما … يجب أن يكونوا مجتمعين فى الطرف الجنوبى من القرية على ألا ينسى كل واحد منهم أن يأخذ معه شوالا فارغاً فأمامهم معركة لم يعرفوها من قبل ، معركة السلاح فيها شوالات فارغات ، ومن ثم يتجهون إلى حيث ينام الجراد – وهو عادة لا يستيقظ إلا عندما تلهبه أشعة الشمس – وهناك يعبئون الجراد النائم داخل أكياسهم الفارغة حيث يعودون إلى بيوتهم ليسلقوه فى مراجل سوداء ولينتقل الجراد من أجواف الخيش إلى أجوافهم هم وتكون أروع عملية إبادة عرفها تاريخ الجراد .
البحر لا ماء فيه ، الدار الجماهيرية ، ليبيا. ص/ص : 30 – 35 (بتصرف)


* ملاحظة النص واستكشافه :
1- العنوان : يتكون عنوان النص من كلمة واحدة ، فهو عنوان مفرد
2- بداية فقرات الأولى من النص : نلاحظ فيها مؤشرات تدل على أن النص نص سردي ، ومنها : الشخصيات – الزمان – المكان
3- الصورة المرفقة : تنسجم مع العنوان من حيث مضمونها وصيغتها (صيغة الجمع)
4- نهاية النص : تنسجم مع العنوان لأنه تكرر فيها أكثر من مرة.. كما أن هذه النهاية تشير إلى الحل المقترح للقضاء على الجراد

* فهم النص :
1- الإيضاح اللغوي :
- يشمر : يستعد ويتهيأ
- مشحونا : مملوءا
- الصخب : الصوت المرتفع
- مشروخ : متقطع
2- الحدث الرئيسي :
نجاح أهل القرية في التخلص من الجراد بفضل تعاونهم وتضامنهم

* تحليل النص :
1- أحداث النص :
حالة البداية
الحدث المحرك
العقدة
الحل
حالة النهاية
وصف هدوء القرية وأهلها الذين يزاولون أعمالهم اليومية في جو من السكينة والطمأنينة إشاعة خبر قدوم الجراد إلى القرية توتر أهل القرية وخوفهم وحيرتهم في إيجاد حل للتخلص من الجراد - الحل الأول : إحداث صخب وضجة

- الحل الثاني : وضع الجراد في أكياس وأكله
ØØØ تغيب حالة النهاية في هذه القصة لأنها
انتهت بمجرد اقتراح الحل الثاني ، ولكن يتوقع أن تعود السكينة والطمأنينة إلى القرية
2- الألفاظ الدالة على توتر أهل القرية وحيرتهم عند سماع خبر مجيء الجراد :
[استحال الناس …إلى مجموعة من المجانين – يجرون هنا وهناك  – صوته مشحون بالحرقة واللوعة – خوف  – يتساءل في غضب – التساؤل – إشارات الاستفهام …]
3- الشخصيات والزمان والمكان :
الشخصيات
الزمان
المكان
- المبروك – الحاج سالم - عمران - مساء – أول أمس – عام – الساعات الأولى من الفجر - القرية – الحقل – أمام المسجد – الطرف الجنوبي

* مقصدية النص :
دور الاتحاد والتضامن في حل المشاكل الكثيرة مهما كانت مستعصية.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

****فيما يلي تتمة قصة الجراد كما وردت في مصدرها : “ البحر لا ماء فيه” :

 
وما كاد ينتهى المبروك من إيضاح فكرته حتى كانت التعليقات الساخرة ، ترتفع من كل
مكان فى هذا الجمع الصغير…
هذا جيش . جيش من الجراد . ليس جرادة ولا جرادتين .
جيش بالملكة التى تحكم عرشه .
وهمهم الجميع فى سخرية . وانتهز الفقى مصباح هذه الفرصة فرجع يذكر الجماعة برأيه
الأول قائلا بأنهم يجب أن يسرعوا من الآن بالذهابإلى ضريح سيدى أبو قنديل ، شيخ الأولياء
والصالحين .
وفى هذه اللحظة كان الظلام يستحكم أكثر فأكثر . وكثير من الأطفال أتوا يستدعون آباءهم إلى
العشاء . . وقالت لك أمى العشاء برد .
وكان المبروك يشعر بأن الجماعة لم يتمعنوا جيدا فى الرأى الذى قاله . . وكان يهم
بتوضيحه أكثر…
اسمعوا يا إخوان . .
واستمر بعد أن هدأت الضحية
حسب ظنى يا رجال ، كلام المبروك لا يخلى من صواب .
لكن هذا جيش من الجراد الذى إذا انتشر فى الجو حجب السماء عن الأنظار . ويريد المبروك من
هؤلاء المجتمعين الذين لا يزيدون عن الخمسين نفرا جمع الجراد والقضاء عليه . هذا هو
المستحيل بعينه .
وأطرق الشيخ مسعود برأسه قبل أن يقول .
ولماذا هؤلاء الخمسون نفرا فقط؟ لماذا لا تخرج القرية كلها بكبارها وصغارها ، العجائز
والكهول والأطفال والنساء والشباب ، ويشارك الكل فى عملية جمع الجراد وران سكوت . .
فقد فتح الشيخ مسعود نافذ ة جديدة على اقتراح المبروك بقوله هذا … كان واضحاً أنهم الآن
يراجعون أنفسهم حول اقتراح المبروك .
وكان أول الرافعين رأيه التأييد الحاج سالم .
وأنا كذلك أقول … . أن رأى المبروك ليس به عيب وتوالت التأييدات .
والله صحيح ، لماذا لا نجرب هذا بالليل ، وإذا لم تنفع لجأنا بالنهار إلى فكرة الحاج سالم .
ونضرب عصفورين بحجر . نقضى على الجراد من جهة . ومن جهة أخرى نتحصل على أكل
أطفالنا ليومين أو ثلاثة .
شخص واحد فقط . هو الفقى مصباح رفض بشدة هذا الاقتراح المجنون… حيث قال .
أنتم مجانين ، لا شك أنكم جميعاً مجانين .
ثم دق الأرض بعصاه ، وغادر الجماعة غاضباً . كان واضحاً أن يتعجب لهؤلاء القوم الذين
يتركون رأيه الرزين… ويتبعون اقتراحاً مجنوناً يقوله طفل صغير كالمبروك .
وانفض الجميع… . .
وفى أول ساعات السحر … تماما … عندما كان ديك فى مكان ما يؤدون وكلب ينبح النجوم .
وعواد ذئب حمله الريح . من مكان بعيد بعيد . فى هذا الوقت تماما كان الطرف الجنوبى من
القرية يشهد لقاءا من نوع لم يعرفه التاريخ الاجتماعات فى هذه القرية من قبل .
كان عددهم كثيراً … كثيرا جدا … وقد عبر عاشور فعلا . عما يدور فى أذهان الجميع عندما
قال أنه لم يكن يتصور أن القرية تضم ذهاء العدد الكثير من الناس .
وكانت الصفة الوحيدة التى تجمع بينهم هى هذا الشوال الفارغ ، والملقى على كتف كل واحد منهم
أما فيما عدا ذلك فهم خليط عجيب من الرجال والنساء والعجائز الذين تحنى السنون هاماتهم
والأطفال الذين لم يمنعهم الليل ولا البرد من أن يتقافزوا هنا وهناك .
وكانت واحدة من النساء قد أحضرت معها طفلها الرضيع وعامر أتى يركب حمارة . أما عبد
النبى فقد أحضر معه عربة اليد الصغيرة ليضع بها شوالين أو ثلاثة من الجراد وكان عدد من
الكلاب يهرول فى أعقاب ركبهم . . يشكل ذيل طويل للركب .
وسار رك بهم الكبير يختلط فيه نباح الكلاب . مع نهيق الحمار مع صليل عربة اليد الصغيرة . مع
الصوت الصادر عن أقدامهم التى تضرب عبر الأرض الواسعة .
ورغم أن الربيع يوشك على الفوات … إلا أن النسمات فى هذه الساعة من السحر … باردة باردة
، بحيث تجعل وجوههم تلتهب وأذانهم وأن وفهم تحتقن وتحمر . أنهم يشعرون بهذه النسمات محملة
بعبير أشجارهم ومزروعاتهم بل كان واضحاً أن كل فرد يضمه هذا الجمع يميز الآن فى هذا
العبير… رائحة شجيرات البرتقال فى بستانه . أو سنابل الحنطة فى حقله . أو البلح فى شجيرات
نخلة ولم يكن ثمة قمر يضيء المكان عندما كانوا يسيرون . إلا أن النجوم التى تلمع كأنها عيون
السماء . . ما يزال ضوءها يبدد شيئاً من الظلمة .
أما عندما وصلوا المكان الذى ينام فيه الجراد فإن أعمدة الفجر النورانية التى يفجر بها الأفق
كانت كافية لتنير أمامهم المكان بحيث يستطيعون جمع الجراد بسهولة .
وكان هذا الأفق يبدو أحمراً ملتهبا . . كان يبدأ حمرته من رئوس القرون الضاربة الى الزرقة ثم
يتصاعد بها حتى تتلاشى فى السماء السوداء وكان التهاب هذا الأفق فيه حيوية ونبض وحركة .
. حتى ليتهيأ لك أن نارا إلهية هائلة تستعر خلف هذه القرون . تجعل الأفق يلتهب بهذه الصورة .
وكان الجراد قد اختار لنومه هضبة عريضة انتشر فوقها . كان يبدو تحت أضواء الفجر وكأنه
حقل كبير لا ينتهى من سنابل الحنطة المصفرة فى لون الذهب التى حان أوان حصادها .
وكانت لحظة البدء فى العملية…
وابتدأ القوم يستعدون . خلع الرجال عباءاتهم ورموها فى أكوام متفرقة . وربطوا الأحزمة حول
بطونهم . وشمرا سواعدهم السمراء التى ينزرع فوقها الشعر . وأصحاب السراويل الفضفاضة
شمروا عن سيقانهم أيضاً واختارت أم الرضيع مكاناً أمينا تحت شجرة صغيرة وضعت فيها ابنها
بعد أن قبلته ولفته فى أسماله الكثيرة بعناية .
ووضع عامر القيد فى قدمى حمارة الأماميتين وتركه يأكل العشب . وكان بعضهم قد أحضر معه
مطرة الماء … ونساء أخريات كن يحملن معهن أكياس صغيرة بها أرغفة من الخبز أتين بها
احتياطا لصرخات الأطفال التى ربما تعلو مطالبة بالطعام . كلها وضعوها فى أماكن متفرقة .
وكان كل ما فى المكان يوحى . . بأن عملا عظيما خارقا سيشهده هذا الفجر .
ولم يحتر القوم من أين تكون البداية … فقد ابتدءوا من سفح الهضبة . . هكذا بانتظام . على أن
يواصلوا الصعود تدريجيا . . هكذا بانتظام . على أن يواصلوا الصعود تدريجيا … وعلى امتداد
الهضبة امتد الحشد الكبير فى خط ر مستقيم وكان اتفاق بأن كل واحد عليه أن يمضى فى جمعه
للجراد عبر خط مستقيم أمامه .
وجلس الجميع على أركابهم فوق الأرض . .
وامتدت الأصابع صغيرة وكبيرة . . خشنة وناعمة . . تزج بالجراد داخل خيش أفواهها مفتوحة
. . ابتدأ القوم عملية الإبادة للذى كان مقدراً أنه سيبيدهم عندما تشرق شمس هذا اليوم .
الكل انهمك فى الجمع بهمة لا تقاوم . غير آبهين للأشواك ورؤوس الأحجار المدببة التى ربما
أدمت أيديهم . ولا للحشرات والعقارب المنكمشة من البرد التى ربما جمعوها فى غمرة
اندفاعهم… كل ما يهمهم الآن هو أن هذا الجراد الذى أمامهم يجب أن يجمعوه فى أسرع وقت
ممكن . وقبل أن تكبس عليهم الشمس .
وكان الأطفال يجرون عبر منطقة الجراد إلا أنهم سرعان ما يخرجون مذعورين على أثر
الصيحات التى تركض إليهم زاجرة ناهرة . وأمى سعيدة العجوز لم تسكت عن الصياح بأنهم
يجب أن يعثروا على ملكة الجراد قبل أى ش يء آخر والغناء يرتفع من أماكن متفرقة فى هذا الخط
البشرى الطويل .
كان بعضهم يغنى أغانى الحصاد . . وبعض الشيوخ ارتفعت عقائرهم بالهجاء الذى كانوا يقولونه
أيام حربهم للطليان وكأنه ثمة رابطا بين الحرب وبين ما هم فيه الآن .
كانت أصواتهم ترتفع . .
إحنى نحاربوا والغير … بينا … بينا . على بلادنا والله لا ولينا…
هاولاد يازين . . هاولاد .
وفى مكان آخر يرتفع غناى جماعة فى صوت واحد . . كانوا يغنون . . يا قمر فى العالى …
فى العالى . سافرى وتعالى … وتعالى . .
حتى الأطفال الذين يدرسون بمدرسة القرية اكتشفوا أنه فى هذه اللحظة من الفجر … فى هذا
المكان الشاسع سيكون الغناء شيئاً جميلاً وحلواً . فما لبثت أصواتهم الصغيرة أن ارتفعت بغناء
أخرى نشيد حفظوه فى المدرسة . أما الصغار جدا الذين لا يعرفون أناشيد المدرسة ، لأن
أعمارهم مازالت لم تسمح بدخولهم إليها … فقد اكتشفوا أن شيئاً ما يختفى فى الوهاد القريبة يردد
مع القوم الغناء فى صدى جميل … مما جعلهم يرهفون آذانهم . . ويفتحون أعينهم الصغيرة
السوداء فى انبهار . . ثم يصيحون فى صوت واحد
هو . . هووووو . . هووووو وعندما كان يرد الصدأ .
هو … هوو … هووو
كانوا ينظرون بعضهم إلى بعض فى دهش ة… ثم يضحكون ويصفقون فى فرحة عارمة . .
وكأنهم عثروا على أعظم اكتشاف فى العالم .
كان الجراد ساكنا هامدا كأنه ميت .
وكان الخط البشرى الطويل يتقدم باستمرار . كان أحياناً يبدو منصرماً . وأحيانا متعرجا . وفى
أحيان أخرى يستقيم حتى أن الجراد يبدو أمامه وكأنه بس اط كبير عريض يطويه هذا الطابور
الطويل .
وكل واحد منهم كان يود لو يتمكن من توسيع الرقعة المخصصة ليجمع جراداً أكثر . وحتى عندما
امتدت يد مزارع عجوز إلى الجراد الذى أمام عمران ، كادت تحصل مشادة بين الاثنين ، لولا أن
المزارع العجوز سحب يده فى الوقت المناسب .
وبعض الشيوخ الموجودين كانوا فى أزمان بعيدة من ضحايا الجراد . . يستبد بهم الآن شعور
غريب بأن ينهم وبين هذا الجراد ثارا قديما . . مما يدفعهم للجمع بغلى ولهفة وعنفوان . وفى
أعماقهم فرحة ، بأنهم الآن يردون الثأر . ينتقمون لنكبات سببها الجراد .
وكانت أصوات كث يرة ترتفع بين الحين والأخر تطالب القوم بمضاعفة النشاط . . وكان أكثرها
الحاحاً صوت الشيخ مسعود .
أسرعوا يا رجال . . انشطوا يا رجال
كان يقول يا رجال … والفجر يشهد أن نصف هذا الخط البشرى الطويل يشغره نساء وأطفال .
وكانت الهضاب وهى تردد صوت الشيخ مسعود ، تبدو وكأنها تبعث بتأييدها للعملية التى تجرى
الآن .
وفى إحدى زوايا الخط لعبت النشوة بأنفار سبعة من بينهم عاشور . فاتفقوا على أن يجروا فيما
بينهم سباقاً حول من منهم الأول الذى يسبق بالوصول إلى قمة الهضبة حيث نهاية الشوط …
ويكسب الرهان ورغم أن الأنفار الستة الذين مع عاشور كانوا يجهدون أنفسهم لدرجة أن حبات
العرق كانت تنبثق على جباههم رغم برودة الجو … فإن عاشور الذى سبقوه فى بداية الأمر …
سرعان ما وجدوه يقطع شوطاً كبيراً أمامهم ثم إذا به يصل إلى نهاية الشوط … ويكسب الرهان
كان عاشور فى الخط الطويل بأكمله . . أول من وصل نقطة النهاية .
وصاح عاشور فى أعلى الهضبة . . وهو يرفع كلتا يديه فى حماس هاى … هاى . . هاى .
كان واضحاً أن شعوره فى هذه اللحظة شعور قائد عظيم ينتصر فى أعنف معاركة الحربية .
وتوالى من بعده وصول الآخرين . . . وأكياسهم مليئة بالجراد .
وقبل أن تطل الشمس من خ لف القرون البعيدة . . حتى كان آخر من تبقى من الجماعة قد أكمل
نصيبه .
ووقفوا بجمعهم الكبير فوق الهضبة يشهدون هذه المعجزة التى تمت على أيديهم . . وفى قلب كل
واحد منهم فخر بأنه أحد الذين تمت على أيديهم المعجزة . لذلك فهو يبتسم فى سرور .
كانت الهضبة حمراء . لم يتبق من ذلك الجراد الذى كان يغطيها سوى عدة جرادات تتقافز هنا
وهناك وقد راح بعض من الأطفال يتقافزون وراءها .
وكان الحاج سالم ينظر إلى الأرض الحمراء . وما فتأ يردد أنه حتى الآن لا يصدق كيف تم الذى
تم . وكان النساء يستعجلن الساعة التى سيصلن فيها القرية . حيث يقمن بسلق الجراد فى
(حماميس) سوداء ويقلن فى كل عملية سلق . .
حلالك ، ملالك ، سكينك فى نارك ، بسم الله والله أكبر .
ولسوف يسترحن من دوشة أطفالهن بالمطالبة فى كل لحظة بالخبز الذى فى الغالبما تكون
أرغفته المعدودة قد نفذت . سيكتشف هؤلاء الأطفال أن الجرا د طعمه لذيذ . حتى عندما يذهبون
إلى المدرسة لن تكون فى شنطهم الصغيرة التى تخب متدلية من خيوط على أكتافهم كسرات من
الخبز … بل ستكون عامرة بحفنات من الجراد المسلوق!
ويرجع أهل القرية الصغيرة . . الأكياس مليئة بالجراد على أكتافهم وأظهرهم . . والفرحة فى
قلوبهم وعلى وجوههم . . حتى خطواتهم تبدو فرحانة … فقد كانوا يمشون وكأنهم يرقصون .
وكان عبد النبى يمسك بعربة اليد الصغيرة المشحونة بثلاثة أكياس من الجراد … ويجرى بها
خلف الأطفال ويصيح وهو يقلد السيارة - بيب… بيب . .
فيكركر الأطفال…
حمار عاشور يخب وكأنه هو الأخر فرحان . . حتى الرضيع الذى كانت تحمله أمه على ذراعها
كان بكاؤه يبدو جميلا كالغناء وعاشور كان يتندر بالجماعة الذين كسب منهم الرهان .
وجميعهم… كانوا يضمون قلوبهم على الشوق الذى يحملونه لقريتهم الجميلة الوادعة التى تتراءى
أمامهم . . كاجمة خضراء غارقة فى أضواء الصباح .
والشمس تشرق عليهم من بعيد . . تجعل ظلالهم . . طويلة . . كأنهم عمالقة ، وأحيانا كانت
تتجمع ظلالهم فى ظل كبير طويل يتقدم إلى الأمام … كأنه ظل إنسان واحد لم يعرف العالم أكبر
منه . . ولا أعظم منه .