-->

أبواب الأمل

في مسكنه - وهو عبارة عن حجرة وحيدة ومرافق -  يرى نفسه، يتجسد له معنى حياته. إنه يعيش متفتح الحواس مرهف الوعي ليتزود بكل سلاح. ومن نافذته الصغيرة يرى وطنه -حارة الحسيني- كأنها امتداد لروحه وجسده، حارة طويلة ذات منحنى حاد، مشهورة بموقف للكارو ومسقى للحمير. البيت الذي ولد ونشأ فيه تهدم. وقامت موضعه باحة صغيرة لعربات اليد. قليل من مواليد الحارة من يبرحها بصفة نهائية إلا للقبر.
تحليل النص القرائي أبواب الأمليعملون في مواقع كثيرة، في المبيضة.. الدرَّاسة.. السكة الجديدة.. أو فيما وراء ذلك، ولكنهم يرجعون إليها آخر النهار. ومن خواصها الحميمة أنها لا تعرف الهمس والنجوى، أصواتها مرتفعة جداً، متوترة بين الحكمة والبدائية، ومن بينها صوت قريب قوي خشن لم يخلخله الكبر، صوت أم حسني صاحبة البيت.
أم حسني كانت صديقة لأمه وزميلة ومرشدة ، صديقة عمر طويل. كانت كلتاهما زوجة لسواق (كارو) ، وعاملة كادحة تكد بصبر النمل ودأبه سعيا وراء القرش، تسند به زوجها، وتتمم عشها. ماتت أمه وهي تعمل، أما أم حسني فما زالت تعمل بهمة عالية . وكانت أم حسني أحسن حظا وأوفر رزقا ، فتجمع لديها من المال ما بنت به بيتها المكون من ثلاثة أدوار، مخزن أخشاب أرضي وشقتين، تقيم في إحداهما وعثمان في الأخرى. وابنها حسني لم يخلف وراءه إلا اسمه ، أما شخصه فقد حملته أيام الحروب والمحن إلى بلاد نائية فاستقر فيها.
ألا يحق له أن يحلم؟ إنه يحلم بفضل الشعلة المقدسة التي تتقد في صدره، وبفضل حجرته الصغيرة يحلم أيضا. وألف أحلامه كما يألف الفراش والكنبة والسحارة والحصيرة، وكما ألف الأصوات الحادة والمنغومة التي تند عن حنجرته تردد أصداءها الجدران الراسخة القاتمة.
ماذا كان بالأمس؟ أراد أبوه أن يجعل منه سواق (كارو) مثله ، ولكن شيخ الكتاب قال له :
- يا عم بيومي توكل على الله، وأدخل الولد المدرسة الابتدائية..
فذهل الرجل وتساءل :
- ألم يحفظ من القرآن ما يقيم به الصلاة؟
- فقال الشيخ : 
- الولد ذكي وعاقل وربما رأيته يوما من رجال الحكومة..
وقهقه عم بيومي غير مصدق، فقال الشيخ :
- عليك بمدارس الأوقاف فربما قبل بالمجان..
وتردد عم بيومي زمنا، ثم تمت المعجزة، ونجح عثمان في المدرسة نجاحا مذهلا حتى حصل على الابتدائية. تميز عن أقرانه الحفاة من أبناء الحارة، ورأى بعينيه الحادتين أول شرارة تنطلق من فؤاده النابض، وأيقن أن الله يبارك خطاه ويفتح له أبواب الأمل. والتحق بالمدرسة الثانوية بالمجان كذلك، فحقق من النجاح ما لم يصدقه أحد في حارة الحسيني

نجيب محفوظ . حضرة المحترم . دار القلم ، بيروت (1977) . ص ص : 12 - 14 . (بتصرف)


أولا : التأطير والملاحظة :

1- مصدر النص وصاحبه :

النص مأخوذ من رواية  ((حضرة المحترم)) لنجيب محفوظ الأديب المصري المعروف (انظر ترجمته في الكتاب المدرسي ص : 11)

2- العتبات :

- أولى الملاحظات تقودنا إلى عنوان النص المركب من كلمتين (مركب إضافي) ، تدلان على التفاؤل وتوقع الخير من المستقبل ، وصيغة الجمع  لكلمة أبواب تدل على تفاؤل كبير لا حدود له.
- يبتدئ النص بمؤشر مكاني (مسكنه) يشير إلى الفضاء الذي تتحرك فيه الأحداث.
- يجد العنوان صداه في نهاية النص حيث تكرر بصيغته الكاملة في الفقرة الأخيرة، إلى جانب ألفاظ وعبارات تنتمي إلى الحقل الدلالي نفسه مثل : فؤاده النابض - يفتح - شرارة - النجاح..
- في سيرة الكاتب ما يفسر ارتباطه بعالم الحارة وحياة الناس فيها ، ويتجلى ذلك في ولادته بحي الجمالية بالقاهرة ونشأته في حي شعبي وتسمية بعض رواياته بأسماء الأحياء الشعبية.

3- فرضية القراءة :

انطلاقا من الملاحظات السابقة يفترض أن يتحدث النص عن شخص يود مغادرة حي شعبي.


ثانيا : الفهم والتحليل :

1- على مستوى الأحداث :

- لحظة البداية : تقديم بطل النص السردي وتصوير مكان تواجده (الحجرة ، الحارة) ، والأفكار التي تراوده.
- لحظة استرجاع الماضي : تذكر البيت الذي نشأ فيه - تذكرصديقة الأم (أم حسني) - تذكر الأب الذي أراد أن يجعل من ابنه سائق كارو - تذكر شيخ الكتاب الذي نصح الأب بإدخال ابنه المدرسة الابتدائية.
- لحظة العودة إلى الحاضر واستشراف المستقبل : نجاح عثمان في دراسته وتفوقه على أقرانه ، وانفتاح أبواب الأمل في وجهه.

2- على مستوى الشخصيات :

 الشخصيات
 الأوصاف النفسية
 الأوصاف الاجتماعية
 البطل
 متفتح الحواس - مرهف الوعي - يحلم.. - شعلة مقدسة تتقد في صدره  تميز بين أقرانه ، حقق من النجاح ما لم يصدقه أحد
 أم حسني
 همة عالية - أحسن حظا  صاحبة البيت الذي يقطنه السارد - صديقة لأمه - زوجة لسواق كارو - عاملة كادحة
 الأم
 ----
 زوجة سواق كارو
 الأب
 ----
 سواق كارو

يمكن تصنيف شخصيات النص بطريقة أخرى حسب علاقتها بالسارد إلى :
- شخصيات مساعدة : أم حسني - شيخ الكتاب
- شخصيات معرقلة : الأب

3- على مستوى الزمان والمكان : 

تتغير الأمكنة في النص بتغير الأزمنة ، وتتغير معها الحالة النفسية لبطل النص، فالزمن الماضي يرتبط بالحارة التي نشأ فيها السارد وعاش فيها جزءا من طفولته البئيسة (بيته تهدم - ماتت أمه...) ، وفي الزمن الحاضر يتغير المكان ليصير حجرة في مسكن يرى من خلالها البطل معنى لحياته ، ويعيش فيها أحلامه التي تتقد في صدره وهي الخروج من الحارة وتحسين وضعيته. وفي زمن المستقبل تتحقق أحلام البطل وتنفتح أمامه أبواب الأمل لتحقيق مزيد من النجاح.

4- على مستوى البناء السردي :

- الترتيب الزمني:  يخلخل السارد الترتيب الزمني للأحداث ، فبدل عرضها حسب تسلسلها الزمني الذي وقعت، نجد ترتيب آخر ينطلق من الزمن الحاضر ثم الماضي ثم الحاضر مرة أخرى ثم المستقبل.
- نوع الرؤية السردية : الرؤية من الخلف أو الرؤية من الداخل.

ثالثا : التركيب والتقويم :

يتضح من خلال قصة النص أن البطل يمثل نموذجا مثاليا للإنسان الطموح المتفائل المصر على تغيير وضعيته وواقعه بكل ما أوتي من قوة. فمن حارته التي يقطن بها بدأ طموحه وتفكيره في التغيير نحو الأفضل من خلال استرجاع أحداث الماضي، وكيف كان سكان الحارة يعيشون ويقضون حياتهم في هذا العالم المحدود، ويتذكر زوجة أبيه أم حسني التي أشفقت عليه بعد وفاة والدته وخصصت له شقة في بيتها ليقيم فيها.
أما قصة نجاحه فقد بدأت منذ اللحظة التي نصح فيه شيخ الكتاب والده بضرورة إدخاله المدرسة الابتدائية. وهكذا كان حيث تفوق في دراسته وبلغ من النجاح مالم يصدقه أحد في حارته.
يتضمن النص قيما حقوقية منها الحق في التعلم ودوره في إنقاذ الأطفال من الحرمان وفتح باب الأمل أمامهم.