-->

تعاطيت التجارة

كان ينعقد بأقاليم فاس أسواق دورية على مدى الأسبوع ، وكانت الحافلات الذاهبة إلى هذه الأسواق تجتمع في أبواب فاس المتفرقة ، بعضها يذهب من "باب فتوح" ، والبعض الآخر يذهب من باب "عجيسة" ، ولم يسبق لي أن تعاطيت التجارة ، ولا عرفت قواعدها ، اللهم إلا تلك النظريات التي درستها في الكتب . اتكلت على الله ، فاشتريت كيسا من الخيش ، وذهبت إلى سوق الشماعين والديوان ، واشتريت ملابس مختلفة مما ظننت أنه يصلح لسكان البادية . وكان علي أن أشتري مع كل ذلك خيمة تصلح كدكان في السوق.

استقللت حافلة الركاب المتجهين إلى السوق ، وكانت مفاجأة لي جديدة وقاسية ، إذ ركبت مع قوم لم أتعود على أحاديثهم الفجة البذيئة ، وكانوا يطلقون الكلمات السخيفة عفوا مما يخالف التربية الخلقية والاجتماعية التي نشأت عليها في مختلف أطوار تربيتي ومراحل تعليمي.

تعاطيت التجارة

تعودت على أعمال السوق والقيام له باكرا في الصبح ، والعودة إلى البيت عند الغروب ، وأحيانا بعد العشاء حين تكون الأسواق بعيدة ، والأحوال الجوية سيئة : أحيانا تهاجمنا الرياح العاصفية داخل الخيمة ، وأحيان أخرى تنزل أمطار طوفانية على حين غرة ، وتارة نتلظى بحرارة الشمس المحرقة.

كان علينا ، إضافة إلى ذلك ، أن نتحرى اليقظة التامة في مواجهة الرواد المشترين ، والحذر من تسرب بعض اللصوص بينهم ، واستغلال لحظة غفلة أثناء التعامل مع البعض لاقتناص قطعة من الكتان ، أو غيرها من الأشياء المعروضة للبيع ، وكثيرا ما كان يقع ذلك.

كان كيس الخيش في أول الأمر كافيا لحمل البضائع المختلفة ، ولكن اتساع حركة التجارة تطلب التوسع في وسيلة حملها ، فصارت طردا كبيرا يسع ضعفين أو ثلاثة مما كان في أول الأمر . في كل صباح أبني الخيمة ، وأفتح الطرد الكبير المحتوي على البضائع وأنشرها بين أيدي المشترين ، ثم أهدم الخيمة مرة ثانية في المساء . يتكرر ذلك كل أيام الأسبوع.

كنت أحيانا بعد انتهاء السوق ، عندما أجد وقت فراغ ، أتزود بشراء بعض لوازم البيت ، من زبد وبيض ولحم أو دجاج ، وفي المساء بعد العودة إلى المدينة ، كان علي أن أقصد أسواقها لشراء خلف لما بعته من البضائع في النهار ، وللأشياء التي يكثر عليها الطلب ، ثم أعود إلى البيت وقد انهارت قواي من تعب يوم كامل قضيته في الأشغال الشاقة ، ومتطلبات العمل التي لا ترحم . ومع ذلك كان يغمرني كل الرضى والاطمئنان ، لأنني أشعر براحة الضمير ، وبتمتعي بحريتي التامة ، وصيانة كرامتي من أي دنس ، وبألا أحد له علي منة لأنني أعيش من كدي وعرق جبيني ، وأحس بأنني نجحت في تحدي هذا المجتمع الذي يأبى على الإنسان ألا يعيش إلا إذا كان أنفه راغما في التراب!.

عبد الهادي الشرايبي . عن كتاب ((ثمن الحرية)) . ص : 30 . مطبوعات دار المغرب . 1978م.

* التعريف بالكاتب:

1- مراحل من حياة عبد الهادي الشرايبي:

- ولد بفاس سنة 1910م
- تلقى تعليمه الأولي في المدارس الحرة
-تابع تعليمه الثانوي والعالي في جامعة القرويين
- عمل مدرسا في المدارس الحرة قبيل استقلال المغرب ، ثم أقيل فزاول الأنشطة التجارية.
- بعد الاستقلال تقلد عدة مناصب ديبلوماسية في كل من تونس و ليبيا ومصر وباكستان و تشاد
- كان عضوا في الحركة الوطنية بالمغرب
- عرف بمناهضته للاستعمار مما عرضه للنفي
- مثل المغرب في عدة مؤتمرات دولية

 2- أعمال عبد الهادي الهادي الشرايبي:

- يوم شوقي بفاس (قصيدة واحدة)
- ثمن الحرية (سيرة ذاتية)
بالإضافة إلى مجموعة من المقالات في مجال الثقافة والفكر والأدب

أولاً: ملاحظة النص واستكشافه:

1- العنوان: مركب إسنادي يتكون من ثلاث كلمات (فعل : تعاطى + فاعل : تُ + مفعول به : التجارة)
- يدل العنوان على مشاركة السارد في الأحداث ومزاولته لنشاط تجاري.
2- الفقرة الأولى: نلاحظ فيها تكرار العنوان  وتردد بعض الألفاظ التي تنتمي للمعجم التجاري ( أسواق – اشتريت – دكان)
3- الصورة المرفقة: تمثل مشهدا لسوق شعبي بوسط قروي وفي فترة زمنية قديمة بالنظر إلى نوع الصورة التي التقطت باللونين الأبيض والأسود. وتنسجم الصورة في مضمونها مع العنوان.
4- نوعية النص: مقطع من سيرة ذاتية ذو بعد اقتصادي.

ثانياً: فهم النص:

1- الإيضاح اللغوي:

 - الخيش: نسيج خشن من الكتان
- على حين غرة: فجأة وبدون سابق إنذار
- منة: فضل ونعمة
- دنس: وسخ ، نجاسة ، والمراد هنا : العيب والعار
- كدي: من الكد : وهو الاجتهاد والمثابرة.

2- الحدث الرئيس:

تجربة السارد في مهنة التجارة ، ووصف أتعابها وارتياحه لمزاولتها.

ثالثاً: تحليل النص:

1- أحداث النص بوصفه سيرة ذاتية:

الأحداث والمراحل1- الاستعداد لمزاولة التجارة2- الذهاب إلى السوق3- الرجوع من السوق
تفاصيلها
- شراء كيس من الخيش
- شراء ملابس لبيعها
- شراء خيمة تصلح كدكان
في السوق
- استقلال الحافلة ووصف ركابها
- التعود على أعمال السوق
- وصف الظروف المناخية القاسية
- وصف المعاناة مع اللصوص
- توسع السارد في نشاطه التجاري
- التزود بلوازم البيت
- الإحساس بالتعب والإرهاق
- الإحساس بالرضى والاطمئنان

2- معجم النص:

معجم التجارةمعجم المعاناةمعجم الارتياح
أسواق- التجارة - اشتريت -
 دكان - السوق - المعروضة للبيع - 
 البضائع - المشترين - شراء -
الطلب...
قاسية – تهاجمنا الرياح -  نتلظى 
بحرارة الشمس المحرقة - الحذر 
من تسرب بعض اللصوص -
 انهارت قواي - تعب يوم كامل -
الأشغال الشاقة - متطلبات العمل 
التي لا ترحم...
يغمرني كل الرضى والاطمئنان- 
 أشعر براحة الضمير -
 تمتعي بحريتي التامة -
 لا أحد له علي منة...

3- نوع الرؤية السردية:

الرؤية "مع" أو الرؤية المصاحبة:  السارد = الشخصية الرئيسية

رابعاً: التركيب والتقويم:

النص سرد لتجربة السارد الذاتية في مجال التجارة ، يصور من خلالها الصعوبات التي يواجهها كل تاجر في بداية ممارسته لهذه المهنة، والمتمثلة خصوصا في الظروف الطبيعية. كما أن النص يصور إحساس الإنسان بالرضى والارتياح نتيجة مزاولته عملا شريفا.
* يتضمن النص قيمة اقتصادية تتمثل في حاجة الإنسان إلى العمل لتحقيق الأمان والاطمئنان ، وأهمية التجارة بوصفها قطاعا مهما وحيويا ضمن القطاع الاقتصادي.